كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفرق بينها على الثاني وبين الدفن الكفارة للبص على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الإثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يدوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك، وعلى الأول الممحو هو حق الله تعالى من حيث هو حقه، وأما بالنظر لنحو الفسق بموجبها فلابد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى.
ومتى قيل: بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا يعدّ ثوابًا لا يخلو عن نظر؛ ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب، وإن تضمنه في الجملة فتأمل {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال كالتفكير وما يوجبه من جناية الظهار {خَبِيرٌ} أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلو بشيء منها.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، والمراد بمن لم يجد من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلًا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم.
وللذي يعمل قوت شهر على ما في (البحر) ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلًا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثًا لابد منه، وعن دينه ولو مؤجلًا.
وقالوا: إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو بممونه فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعًا كمن وجد ماءًا وهو يحتاجه لعطش وإلى اعتبار كون ذلك فاقدًا كواجد الماء المذكور ذهب الليث أيضًا.
والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء، وبه قال مالك، وعن الشافعي أقوال في وقتهما أظهرها كما هو عندنا، قالوا: لأن الكفار أعني الإعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها، وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء، والرابع الأغلظ منهما، وأعرض عما بينهما.
ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين، وأما قبله فقيل فاقد أيضًا بناءًا على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقًا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكمًا، وقيل: واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه.
وفي (البدائع) لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واحد حقيقة، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل، وصرح بذلك النووي.
وغيره من الشافعية فقالوا: لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة، والفرق بينهما بتكرر ذلك ضعيف، وعلى الأول كما قال الأذرعي وغيره نقلًا عن الماوردي واعتمدوه لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل، وكذا لو غاب ماله فكيلف الصبر إلى وصوله أيضًا، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى.
وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما، ثم أعتق عن ظهار الأخرى، ففي المحيط في نظير المسألة ما يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال: عليه كفارتا يمين، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزأه ذلك وإن غم الهلال اعتبر كما في (المحيط) كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلابد من ستين يومًا كما في (فتح القدير)، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضًا، وقالوا: إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل، وإن أفطر يومًا من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة، وقال أبو حيان: إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه: يبنى.اه.
وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلًا عامدًا أو نهارًا ناسيًا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيًا لا يستأنف عند الإمام أيضًا كما لو أكل ناسيًا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة، وتقدمها على المسيس شرط حلها، فبالجماع ناسيًا في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطال ما أوجب الله تعالى، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل.
وفي (البحر): المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر، وفي المريض روايتان، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذٍ تطوعًا، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطًا لا ملتزمًا خلافًا لزفر.
وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالًا ورثه ولم يكن عالمًا به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتبارًا بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم هاهنا، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماءًا ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليرجع {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي صيام شهرين متتابعين، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن الهمام.
وغيره وعليه أكثر الشافعية وقال الأقلون منهم كالإمام ومن تبعه وصححه في (الروضة): يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء، قال ابن حجر: ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع، وكذا من خاف زيادة مرض، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني» الخبر، وعدوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة.
واستدل له بما أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة بن صخر قال: «كنت رجلًا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقًا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها إلى أن قال فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال: أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: فأطعم ستين مسكينًا» الحديث فإنه أشار بقوله: «وهل أصابني» إلخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين، وإنما لم يكن عذرًا في صوم رمضان قال ابن حجر: لأنه لا بدل له، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرًا ابتداءًا لفقده حينئذٍ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر.
وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير ودقيق كل كأصله، وكذا السويق، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في (فتح القدير)، والصاع أربعة أمداد.
وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية، وصح في الأخرى صاع، وهي محمولة على بيان الجواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ولو للبلدي فلا يجزئ نحو دقيق مما لا يجزى في الفطرة عندهم، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي، وروى عنه ابن وهب مدّان.
وقيل: مدّ وثلثا مدّ، وقيل: ما يشبع من غير تحديد، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدى مثلًا ستين مسكينًا وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء، ولو أطعم مائة وعشرين مسكينًا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزأه، واشترط الشافعية التمليك اعتبارًا بالزكاة وصدقة الفطر، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة، ونحن نقول: المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة في التمكين من الطعم، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك، وفي الزكاة الإيتاء، وفي صدقة الفطر الأداء، وهما للتمليك حقيقة كذا في (الهداية) قال العلامة ابن الهمام: لا يقال: اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركًا معممًا أو في حقيقته ومجازه لأنا نقول: جواز التمليك عندنا بدلالة النص، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذٍ دافع لحاجة الأكل وغيره، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعمًا أي آكلًا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلًا، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكًا بقرينة الحال، قالوا: والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكًا أو إباحة انتهى فلا تغفل.
ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءًا وعشاءًا وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداة مثلًا وأعطاه مدًّا وإن أعطى مسكينًا واحدًا ستين يومًا أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد في كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره، وهذا في الإباحة من غير خلاف، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل: لا يجزيه، وقيل: يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص، وخالف الشافعية، فقالوا: لابد من الدفع إلى ستين مسكينًا حقيقة فلا يجزي الدفع لواحد في ستين يومًا، وهو مذهب مالك، والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكيناف، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلًا لمقتضى النص فلا يجوز، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل، ولذا قالوا: لا يجزئ الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددًا حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينًا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكمًا.